عندما يكون الجمهور.. جزءاً من وطن.

{title}
أخبار دقيقة -
كتب ـ د. خالد عدنان البطاينة

على خلاف ما كُتب ويُكتب عن المنتخب، أجدني أميل إلى إنصاف من وقف خلفه، لا من ركض في الملعب وحده.. فذاك الذي ملأ المدرجات لم يكن حناجرَ تهتف فحسب، ولا أقداماً تقفز، ولا راياتٍ تلوِّح في فضاءات الفرح العابرة.. كلا، والله لقد كان أكبر من كل توصيفٍ عابر، وأعمق من مشهدٍ عاطفيٍّ مؤقت.
كان نصَّ الوطن حين يُتلى كاملًا، وصورته حين تتجسّد؛ وطنٌ إذا دُعي حضر، وإذا امتُحن صبر، وإذا خُيِّر اختار الكرامة طريقاً، والعزيمة زاداً، والثبات مآلاً ومحطَّة عبور إلى ما يليق باسمه وتاريخه.

هذا الجمهور الذي رآه الجميع على المدرجات، هو الأردن حين يتجسَّد، هو التاريخ حين ينفض غباره، هو الذاكرة الوطنية حين تخرج من دفاترها لتقول: نحن هنا.. كما كنا، وكما سنبقى.

هذا الجمهور الذي وقف خلف المنتخب هو ذاته ونواته من وقف من قبل خلف الدولة في أزمنة الشِدَّة، حين ضاقت الجغرافيا واتَّسعت المسؤولية، وحين اشتدَّ الحِصارُ فصار الصبر سياسة، وحين عصفت الرياح من كل الجهات، فاختار الأردن بشعبه ومكوناته أن يكون الجبل الشامخ الذي لا يهتز مهما كثرت النوائب.

في لحظة الفوز لم ننتصر في مباراة كرة قدم فحسب، بل انتصرنا على اليأس.. على خطابات التثبيط، على محاولات التشكيك التي أرادت أن تُفرغ المعنى من مضمونه، وتحوِّل الفرح إلى تهمة، والالتفاف إلى ريبة.
هذا الجمهور.. هو نفسه من قلب الطاولة على جميع المهاترات قبل أن تنضج المؤامرات، وهو ذاته من قرأ المشهد بعين الوطن لا بعدسة الانفعال.. فبادل القيادة ثقة بثقة، والعمل بالعمل، والحب بالحب،
فكان التلاقي عند منتصف الطريق دوماً.. مصلحة الأردن العليا لا غيرها.

ما أشبه المدرجات بساحات التاريخ، وما أشبه القمصان المُبللة بالعرق براياتٍ لم تسقط يوماً، وما أشبه الأقدام التي ركضت تسعين دقيقة بجيشٍ يعرف متى يتقدَّم ومتى يصبر ومتى يحسم.
في ذاكرة الوطن الحديثة لا البعيدة، مرَّ الأردن بمحَنٍ لو نزلت على غيره لأثقلت كاهله.. حروب على حدوده، أمواج لجوءٍ حملت معها الألم والأمل معاً.. ضغوط اقتصادية خانقة، واصطفافات حاولت أن تجرَّه خارج بوصلته.. فكان دائمًا أصبر على الجرح، وأوسع من الضيق، وأصلب من الانكسار.

لم يكن ذلك ترف بطولة، بل حصافة قيادة، ونضج دولة، ووعي شعب يعرف أن الأوطان لا تُدار بالعاطفة وحدها أو بالأموال الطائلة والإغداق والترف، ولا تُحمى بالصوت العالي.. بل بالبصيرة، وبالعمل الصامت الذي لا يبحث عن تصفيق ولا تمجيد.
فوز المنتخب جاء ليقول ما عجزت عنه الخُطب.. جاء ليقول أن النجاح لا يولد صدفة، وأن من يعرف موقعه في الملعب، ويحترم الخطة، ويؤمن بزميله، قادر على أن يصنع الفارق ولو تأخَّر الهدف.

قد يستهزئ قارئٌ بهذا النص، وقد يستخفّ بمقصده، لكن مهما قيل ومهما قُدِّر من تهكّم، فهكذا هو الأردن: لا يستعجل المجد، ولا يستجديه من أحد، ولا يسرقه من مواضعه.. غير أنه إذا عزم عليه وعمل له، أقبل المجد طائعاً على قدميه.. أقبل كامل الهيئة، مرفوع الرأس، واضح الخطوة، نظيف الكف، صافي النيَّة.

سعادتنا اليوم ليست نشوة عابرة، بل امتنان عميق، وفرح واعٍ، واستخلاص درسٍ بليغٍ مفاده.. أن الجماعة إذا التفت حول هدف، وأن القيادة إذا وُثِقَ بها، وأن العمل إذا خلصت نيَّته.. فإن المستحيل يصير احتمالًا، والاحتمال يصير واقعاً وإنجازا.

نفرح.. نعم، لكننا والله نعرف أن الفرح مسؤولية، وأن النصر وعدٌ لا ختام، وأن المدرج الذي امتلأ اليوم بالهتاف هو نفسه الذي سيمتلئ غداً بالعمل، وبالإيمان، وبالوقوف الدائم خلف هذا الوطن وخلف قيادتهِ.. كما وقف، وكما سيقف الأردن، شعباً وقيادةً ورايةً في وجه كل التحديات.

بارك الله الجهود الطيبة، وحتى لو لم نظفر بالمباراة النهائية مع المغرب الشقيق، إلا أن المثل قد ضُرب، واستُخلصت العِبر، وعلت الهِمم، وأصبح الدرس مفهوماً للجميع.


عمان ٢٠٢٥/١٢/١٦
تصميم و تطوير